الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء السادس عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {طه مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {طه} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طه: بِالنَّبَطِيَّةِ: يَا رَجُلُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {طه مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} فَإِنَّ قَوْمَهُ قَالُوا: لَقَدْ شَقِيَ هَذَا الرَّجُلُ بِرَبِّهِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {طه} يَعْنِي: يَا رَجُلُ (مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى). حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، أَوْ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: طه: يَا رَجُلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، ذَلِكَ أَيْضًا. حَدَّثَنَا عِمْرَانَ بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا عُمَارَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَ: يَا رَجُلُ، كَلَّمَهُ بِالنَّبَطِيَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَ: بِالنَّبَطِيَّةِ: يَا إِنْسَانُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَ: يَا رَجُلُ بِالنَّبَطِيَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَ: يَا رَجُلُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {طه} قَالَ: يَا رَجُلُ، وَهِيَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَا يَا رَجُلُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَ: يَا رَجُلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَقَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {طه} قَالَ: فَإِنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حُرُوفُ هِجَاءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ يَدُلُّ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعْنًى، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافَهُمْ فِي "ألم". وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ. وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ عِنْدِي مِنَ الْأَقْوَالِ فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: يَا رَجُلُ، لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي عَكَّ فِيمَا بَلَغَنِي، وَأَنَّ مَعْنَاهَا فِيهِمْ: يَا رَجُلُ، أَنْشَدْتُ لِمُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ: هَتَفْـتُ بِطَـهَ فِـي الْقِتَـالِ فَلَـمْ يُجِبْ *** فَخِـفْتُ عَلَيْـهِ أَنْ يَكـونَ مُـوَائِلًا وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ السَّـفاهَةَ طَـهَ مِـنْ خَـلَائِقِكُمْ *** لَا بَـارَكَ اللَّـهُ فِـي الْقَـوْمِ الْمَلَاعِينِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِيهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوَجَّهَ تَأْوِيلُهُ إِلَى الْمَعْرُوفِ فِيهِمْ مِنْ مَعْنَاهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَافَقَ ذَلِكَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: يَا رَجُلُ مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، مَا أَنْـزَلْنَاهُ عَلَيْكَ فَنُكَلِّفُكَ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا كَانَ يَلْقَى مِنَ النَّصَبِ وَالْعَنَاءِ وَالسَّهَرِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} قَالَ: هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فَكَانُوا يُعَلِّقُونَ الْحِبَالَ فِي صُدُورِهِمْ فِي الصَّلَاةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} قَالَ: فِي الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فَكَانُوا يُعَلِّقُونَ الْحِبَالَ بِصُدُورِهِمْ فِي الصَّلَاةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} لَا وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ شَقِيًّا، وَلَكِنْ جَعْلَهُ رَحْمَةً وَنُورًا، وَدَلِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى عِقَابَ اللَّهِ، فَيَتَّقِيهِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ رَبِّهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وَإِنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ كَتَبَهُ، وَبَعَثَ رُسُلَهَ رَحْمَةً رَحِمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ ذِكْرٌ لَهُ أَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، فَقَالَ {تَنْـزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} قَالَ: الَّذِي أَنْـزَلْنَاهُ عَلَيْكَ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ يَخْشَى. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: يَا رَجُلُ مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ لِتَشْقَى بِهِ، مَا أَنْـزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ نَصْبِ تَذْكِرَةٍ، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: قَالَ: إِلَّا تَذْكِرَةً بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ لِتَشْقَى، فَجَعَلَهُ: مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً، وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: نُصِبَتْ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْـزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُنْكِرُ قَوْلَ الْقَائِلِ: نُصِبَتْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ (لِتَشْقَى) وَيَقُولُ: ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ (لِتَشْقَى) فِي الْجَحْدِ، وَ {إِلَّا تَذْكِرَةً} فِي التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيرٌ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَعْنَى الْكَلَامِ: مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى، لَا لِتَشْقَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنْـزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْقُرْآنُ تَنْـزِيلٌ مِنَ الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَالْعُلَى: جَمْعُ عُلْيَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ نَصْبِ قَوْلِهِ (تَنْـزِيلًا) فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: نُصِبَ ذَلِكَ بِمَعْنَى: نَـزَّلَ اللَّهُ تَنْـزِيلًا وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ هَذَا مِنْ كَلَامَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى: هُوَ تَنْـزِيلٌ، ثُمَّ أَسْقَطَ هُوَ، وَاتَّصَلَ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَخَرَجَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ لَفْظِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلَانِ جَمِيعًا عِنْدِي غَيْرُ خَطَأٍ. وَقَوْلُهُ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الرَّحْمَنُ عَلَى عَرْشِهِ ارْتَفَعَ وَعَلَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلِلرَّفْعِ فِي الرَّحْمَنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ: تَنْـزِيلًا فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: نَـزَّلَهُ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ، نَـزَّلَهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَالْآخِرِ بِقَوْلِهِ {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ اسْتَوَى، ذِكْرًا مِنَ الرَّحْمَنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، مَلِكًا لَهُ، وَهُوَ مُدَبِّرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمُصَرِّفُ جَمِيعِهِ. وَيَعْنِي بِالثَّرَى: النَّدَى. يُقَالُ لِلتُّرَابِ الرَّطْبِ الْمُبْتَلِّ: ثَرًى مَنْقُوصٌ، يُقَالُ مِنْهُ: ثَرِيَتِ الْأَرْضُ تَثْرَى، ثَرًى مَنْقُوصٌ، وَالثَّرَى: مَصْدَرٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} وَالثَّرَى: كُلُّ شَيْءٍ مُبْتَلٍّ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} مَا حُفِرَ مِنَ التُّرَابِ مُبْتَلًّا وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ. كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السُّلَيْمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنٍ **صَدَّرَانِ. قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَفَاعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} قَالَ: الثَّرَى: سَبْعُ أَرْضِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ تَجْهَرْ يَا مُحَمَّدُ بِالْقَوْلِ، أَوْ تُخْفِ بِهِ، فَسَوَاءٌ عِنْدَ رَبِّكِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ} يَقُولُ: فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا اسْتَسْرَرْتَهُ فِي نَفْسِكَ، فَلَمْ تُبِدْهُ بِجَوَارِحِكَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ بِلِسَانِكَ، وَلَمْ تَنْطِقْ بِهِ وَأُخْفِيَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ (وَأَخْفَى) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ، قَالَ: وَالَّذِي هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ مَا حَدَّثَ بِهِ الْمَرْءَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْمَلْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ: مَا عَمِلْتَهُ أَنْتَ وَأَخْفَى: مَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِكَ مِمَّا لَمَّ تَعْمَلُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنَى أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} يَعْنِي بِأَخْفَى: مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَهُوَ عَامِلُهُ؛ وَأَمَّا السِّرُّ: فَيَعْنِي مَا أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ: مَا أَسَرَّ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى: قَالَ: مَا أَخْفَى ابْنُ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَهُ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَعَلِمَهُ فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا بَقِيَ عِلْمٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السِّرُّ: مَا أَسَرَّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ؛ وَأَخْفَى: مَا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَا ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِيقَوْلِ اللَّهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: أَخْفَى: الْوَسْوَسَةُ، زَادَ ابْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ فِي حَدِيثِيْهِمَا: وَالسِّرُّ: الْعَمَلُ الَّذِي يُسُرُّونَ مِنَ النَّاسِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (وَأَخْفَى) قَالَ: الْوَسْوَسَةُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: أَخْفَى: حَدِيثُ نَفْسِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَشْقَرِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ: مَا يَكُونُ فِي نَفْسِكَ الْيَوْمَ، وَأَخْفَى: مَا يَكُونُ فِي غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ: مَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ، وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ: مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ السِّرَّ مَا حَدَّثْتَ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَنَّ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ: مَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمَّ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: ثَنَا قَتَادَةُ، فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ، وَأَخْفَى: مَا لَمْ يَكُنْ هُوَ كَائِنٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: أَخْفَى مِنَ السِّرِّ: مَا حَدَّثْتَ بِهِ نَفْسَكَ، وَمَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ أَيْضًا مِمَّا هُوَ كَائِنٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أَمَّا السِّرُّ: فَمَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ، وَأَمَّا أَخْفَى مِنَ السِّرِّ: فَمَا لَمْ تَعْمَلْهُ وَأَنْتَ عَامِلُهُ، يَعْلَمُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّ الْعِبَادِ، وَأَخْفَى سِرَّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ، وَأَخْفَى سِرَّهُ فَلَا يَعْلَمُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَأَنَّ الَّذِينَ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى أَنَّ السِّرَّ هُوَ مَا حَدَّثَ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ سِرًّا، وَأَنَّ أَخْفَى: مَعْنَاهُ: مَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ، وَجَّهُوا تَأْوِيلَ أَخْفَى إِلَى الْخَفِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ تُوضَعُ أَفْعَلُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ، وَاسْتَشْهَدُوا لِقَيْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَمَنَّـى رِجَـالٌ أَنْ أَمُـوتَ وَإِنْ أَمُـتْ *** فَتِلْـكَ طَـرِيقٌ، لَسْـتُ فِيهَـا بِـأَوْحَدِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْكَلَامِ؛ وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ مَا تَأَوَّلَهُ ابْنُ زَيْدٍ، لَكَانَ الْكَلَام: وَأَخْفَى اللَّهُ سِرَّهُ، لِأَنَّ أَخْفَى: فِعْلٌ وَاقِعٌ مُتَعَدٍّ، إِذْ كَانَ بِمَعْنَى فِعْلٍ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَفِي انْفِرَادِ أَخْفَى مِنْ مَفْعُولِهِ، وَالَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى فِعْلٍ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى أَفْعَلُ. وَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلَهُ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى أَخْفَى مِنَ السِّرِّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِمَّا أَخْفَى عَنِ الْعِبَادِ، وَلَمْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ وَلَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ مَا ظَهَرَ وَكَانَ فَغَيْرُ سِرٍّ، وَأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ غَيْرُ كَائِنٍ فَلَا شَيْءَ، وَأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ كَائِنٌ فَهُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مِنْ أَعْلَمَهُ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِهِ. وأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، يَقُولُ: فَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا أَيُّهَا النَّاسُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لِمَعْبُودِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَقَالَ: الْحُسْنَى، فَوَحَّدَ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلْأَسْمَاءِ، وَلَمْ يَقُلِ الْأَحَاسِنُ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ تَقَعُ عَلَيْهَا هَذِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ أَسْمَاءٌ، وَهَذِهِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَسَـوْفَ يُعْقِبُنِيـهِ إِنْ ظَفِـرْتُ بِـهِ *** رَبٌّ غَفُـورٌ وَبِيـضٌ ذَاتُ أَطْهَـارِ فَوَحَّدَ ذَاتَ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلْبَيْضِ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا هَذِهِ، كَمَا قَالَ {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {مَآرِبُ أُخْرَى} فَوَحَّدَ أُخْرَى، وَهِيَ نَعْتٌ لِمَآرِبَ، وَالْمَآرِبُ: جَمْعٌ، وَاحِدَتُهَا: مَأْرَبَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ: أُخَرُ، لِمَا وَصَفْنَا، وَلَوْ قِيلَ: أُخَرُ، لَكَانَ صَوَابًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَلِّيهِ عَمَّا يَلْقَى مِنَ الشِّدَّةِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ، وَمُعَرِّفَهُ مَا إِلَيْهِ بَصَائِرُ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُ مُعْلِيهِ عَلَيْهِمْ، وَمُوهِنَ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْجِدِّ فِي أَمْرِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ فِيمَا يَنُوبُهُ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيمَا يُزَاوِلُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ مَا نَابَ أَخَاهُ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَنْ عَدُّوِهِ، ثُمَّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا لَقِيَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ طِفْلًا صَغِيرًا، ثُمَّ يَافِعًا مُتَرَعْرِعًا، ثُمَّ رَجُلًا كَامِلًا {وَهَلْ أَتَاكَ} يَا مُحَمَّدُ {حَدِيثُ مُوسَى} ابْنِ عِمْرَانَ {إِذْ رَأَى نَارًا} ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشِّتَاءِ لَيْلًا وَأَنْ مُوسَى كَانَ أَضَلَّ الطَّرِيقَ؛ فَلِمَا رَأَى ضَوْءَ النَّارِ {قَالَ لِأَهْلِهِ} مَا قَالَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ، سَارَ بِأَهْلِهِ فَضَلَّ الطَّرِيقَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي الشِّتَاءِ، وَرُفِعَتْ لَهُمْ نَارٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ، وَكَانَتْ مِنْ نُورِ اللَّهِ {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، قَالَ: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ، خَرَجَ وَمَعَهُ غَنَمٌ لَهُ، وَمَعَهُ زَنْدٌ لَهُ، وَعَصَاهُ فِي يَدِهِ يَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ نَهَارًا، فَإِذَا أَمْسَى اقْتَدِحْ بِزَنْدِهِ نَارًا، فَبَاتَ عَلَيْهَا هُوَ وَأَهْلُهُ وَغَنَمُهُ، فَإِذَا أَصْبَحَ غَدًا بِأَهْلِهِ وَبِغَنَمِهِ، فَتَوَكَّأَ عَلَى عَصَاهُ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ بِمُوسَى كَرَامَتَهُ، وَابْتِدَاءَهُ فِيهَا بِنُبُوَّتِهِ وَكَلَامِهِ، أَخْطَأَ فِيهِ الطَّرِيقَ حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، فَأَخْرُجُ زَنْدَهُ لِيَقْتَدِحَ نَارًا لِأَهْلِهِ لِيَبِيتُوا عَلَيْهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَعْلَمَ وَجْهَ سَبِيلِهِ، فَأَصْلَدَ زَنْدَهُ فَلَا يُوَرِّي لَهُ نَارًا، فَقَدَحَ حَتَّى أَعْيَاهُ، لَاحَتِ النَّارُ فَرَآهَا، {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {آنَسْتُ نَارًا} وَجَدْتُ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: بَعْدَ اطِّلَاعٍ إِينَاسٌ، وَيُقَالُ أَيْضًا: بَعْدَ طُلُوعٍ إِينَاسٌ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأُنْسِ. وَقَوْلُهُ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} يَقُولُ: لَعَلِّي أَجِيئُكُمْ مِنَ النَّارِ الَّتِي آنَسْتُ بِشُعْلَةٍ. وَالْقَبَسُ: هُوَ النَّارُ فِي طَرَفٍ الْعُودِ أَوِ الْقَصَبَةِ، يَقُولُ الْقَائِلُ لِصَاحِبِهِ: أَقْبِسْنِي نَارًا، فَيُعْطِيهِ إِيَّاهَا فِي طَرَفٍ عُودٍ أَوْ قَصَبَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُوسَى بِقَوْلِهِ لِأَهْلِهِ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} لَعَلِّي آتِيكُمْ بِذَلِكَ لِتَصْطَلُوا بِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} قَالَ: بِقَبَسٍ تَصْطَلُونَ. وَقَوْلُهُ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي أَضْلَلْنَاهُ، إِمَّا مِنْ خَبَرِ هَادٍ يَهْدِينَا إِلَيْهِ، وَإِمَّا مِنْ بَيَانٍ وَعِلْمٍ نَتَبَيَّنُهُ بِهِ وَنَعْرِفُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: هَادِيًا يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أَيْ هُدَاةً يَهْدُونَهُ الطَّرِيقَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا أَيْلَةَ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} وَقَالَ أَبِي: وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّهُ هَدَى الطَّرِيقِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: هُدًى عَنْ عِلْمِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَضْلَلْنَا بِنَعْتٍ مِنْ خَبَرٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: كَانُوا أَضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: لَعَلِّي أَجِدُ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ آتِيكُمْ بِقَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا أَتَى النَّارَ مُوسَى، نَادَاهُ رَبُّهُ {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ}. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: خَرَجَ مُوسَى نَحْوَهَا، يَعْنِي نَحْوَ النَّارِ، فَإِذَا هِيَ فِي شَجَرٍ مِنَ الْعَلِيقِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ فِي عَوْسَجَةٍ، فَلَمَّا دَنَا اسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى اسْتِئْخَارَهَا رَجَعَ عَنْهَا، وَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ مِنْهَا خِيفَةً؛ فَلَمَّا أَرَادَ الرَّجْعَةَ، دَنَتْ مِنْهُ ثُمَّ كُلِّمَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ الصَّوْتَ اسْتَأْنَسَ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} فَخَلَعَهَا فَأَلْفَاهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ، فَكُرِهَ أَنْ يَطَأَ بِهِمَا الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ، وَأَرَادَ أَنْ يَمَسَّهُ مِنْ بَرَكَةِ الْوَادِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ كَعْبٍ، أَنَّهُ رَآهُمْ يَخْلَعُونَ نِعَالَهُمْ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} فَقَالَ: كَانَتْ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَمَسَّهُ الْقُدْسُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعْدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا، أَنَّ نَعْلَيْهِ كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ، فَخَلَعَهُمَا ثُمَّ أَتَاهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ، فَقِيلَ لَهُ اخْلَعْهُمَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ، فَقِيلَ لَهُ اخْلَعْهُمَا. قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ بَقَرٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ مُوسَى الْأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ، لِيَصِلَ إِلَيْهِ بَرَكَتُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَتَا، يَعْنِي نَعْلَيْ مُوسَى مِنْ بَقَرٍ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَاشِرَ بِقَدَمَيْهِ بَرَكَةَ الْأَرْضِ، وَكَانَ قَدْ قُدِّسَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقِيلَ لِمُجَاهِدٍ: زَعَمُوا أَنَّ نَعْلَيْهِ كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ أَوْ مَيْتَةٍ، قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُبَاشِرَ بِقَدَمَيْهِ بَرَكَةَ الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: قَالَ أَبُو بِشْرٍ، يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} قَالَ: يَقُولُ: أَفْضِ بِقَدَمَيْكَ إِلَى بَرَكَةَ الْوَادِي. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمَيْهِ بَرَكَةَ الْوَادِي، إِذْ كَانَ وَادِيًا مُقَدَّسًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ عَلَى أَنَّهُ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا مَنْ جِلْدِ حِمَارٍ وَلَا لِنَجَاسَتِهِمَا، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عَمَّنْ يُلْزَمُ بِقَوْلِهِ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ فِي قَوْلِهِ {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} بِعَقِبِهِ دَلِيلًا وَاضِحًا، عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِخَلْعِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «"يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، كَانَتْ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَكِسَاءُ صُوفٍ، و سَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكَّى» " صَحِيحًا لَمْ نُعِدْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ "نُودِيَ يَا مُوسَى أَنِّي" بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ "أَنِّي"، فَأَنَّ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقَوْلِهِ: نُودِيَ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: كَانَ عِنْدَهُمْ نُودِيَ هَذَا الْقَوْلُ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ عَامَّةِ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ بِالْكَسْرِ: نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي، عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ قِيلَ: يَا مُوسَى إِنِّي. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْكَسْرُ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّدَاءَ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَمَلِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ "يَا مُوسَى "، وَحَظِّ قَوْلِهِ "نُودِيَ" أَنْ يَعْمَلَ فِي أَنْ لَوْ كَانَتْ قَبْلَ قَوْلِه" يَا مُوسَى "، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: نُودِيَ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وَلَا حَظَّ لَهَا فِي "إِنَّ" الَّتِي بَعْدَ مُوسَى. وَأَمَّاقَوْلُهُ {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُطَهَّرِ الْمُبَارَكِ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} يَقُولُ: الْمُبَارَكُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ، قَوْلُهُ {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} قَالَ: قُدِّسَ بُورِكَ مَرَّتَيْنِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، قَوْلُهُ {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} قَالَ: بِالْوَادِي الْمُبَارَكِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (طُوًى) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طَوَيْتُهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ طُوَى مَصْدَرٌ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: طَوَيْتُ الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ طُوًى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِوَادِيهَا لَيْلًا فَطَوَاهُ، يُقَالُ: طَوَيْتُ وَادِيَ كَذَا وَكَذَا طُوًى مِنَ اللَّيْلِ، وَارْتَفَعَ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي، وَذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ: نَادَاهُ رَبُّهُ مَرَّتَيْنِ؛ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ طُوًى مَصْدَرٌ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: نُودِيَ يَا مُوسَى مَرَّتَيْنِ نِدَاءَيْنِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْشُدُ شَاهِدًا لِقَوْلِهِ طُوًى، أَنَّهُ بِمَعْنَى مَرَّتَيْنِ، قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ: أَعَـاذِلُ إِنَّ اللَّـوْمَ فِـي غَـيْرِ كُنْهِـهِ *** عَـلَيَّ طُـوًى مِـنْ غَيِّـكِ الْمُـتَرَدِّدِ وَرَوَى ذَلِكَ آخَرُونَ: "عَلَيَّ ثُنٍى": أَيْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَالُوا: طُوًى وَثُنًى بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ وَادٍ قُدِّسَ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ اسْمَهُ طُوًى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّهُ قُدِّسَ طُوًى: مَرَّتَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ قَدْ قُدِّسَ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ طُوًى: اسْمُ الْوَادِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (طُوًى): اسْمٌ لِلْوَادِي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: طُوًى: قَالَ: اسْمُ الْوَادِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} قَالَ: ذَاكَ الْوَادِي هُوَ طَوًى، حَيْثُ كَانَ مُوسَى، وَحَيْثُ كَانَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ مَا كَانَ، قَالَ: وَهُوَ نَحْوُ الطُّورِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى أَنْ يَطَأَ الْوَادِيَ بِقَدَمَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثَنَا صَالِحُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} قَالَ: طَأِ الْوَادِيَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ (طُوًى) قَالَ: طَأِ الْوَادِيَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ (طُوًى) قَالَ: طَأِ الْأَرْضَ حَافِيًا، كَمَا تَدْخُلُ الْكَعْبَةَ حَافِيًا، يَقُولُ: مِنْ بَرَكَةِ الْوَادِي. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (طُوًى) طَأِ الْأَرْضَ حَافِيًا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ (طُوَى) بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَرْكِ التَّنْوِينِ، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ اسْمَ الْأَرْضِ الَّتِي بِهَا الْوَادِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَصَـرُوا نَبِيَّهُـمْ وَشَـدُّوا أَزْرَهُ *** بِحُـنَيْنَ حِـينَ تَـوَاكُلِ الْأَبْطَـالِ فَلَمْ يَجُرَّ حَنِيْنَ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْبَلْدَةِ لَا لِلْوَادِي: وَلَوْ كَانَ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْوَادِي لَأَجْرَاهُ كَمَا قَرَأَتِ الْقُرَّاءُ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: أَلَسْـنَا أَكْـرَمَ الثَّقَلَيْـنِ رَحْـلًا *** وَأَعْظَمَهُـمْ بِبَطْـنِ حِـرَاءَ نَـارَا فَلَمْ يَجُرَّ حِرَاءً، وَهُوَ جَبَلٌ، لِأَنَّهُ حَمَلَهُ اسْمًا لِلْبَلْدَةِ، فَكَذَلِكَ طُوًى" فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَجُرَّهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْأَرْضِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (طُوًى) بِضَمِّ الطَّاءِ وَالتَّنْوِينِ؛ وَقَارِئُو ذَلِكَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْتُ مِنَ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ؛ فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ مَنْ طَوَيْتُ، فَلَا مُؤْنَةَ فِي تَنْوِينِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ اسْمًا لِلْوَادِي، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُنَوِّنُهُ لِأَنَّهُ اسْمُ ذَكَرٍ لَا مُؤَنَّثٍ، وَأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْهُ يَاءٌ، فَزَادَهُ ذَلِكَ خِفَّةً فَأَجْرَاهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} إِذْ كَانَ حُنَيْنُ اسْمَ وَادٍ، وَالْوَادِي مُذَكَّرٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَالتَّنْوِينِ، لِأَنَّهُ إِنْ يَكُنِ اسْمًا لِلْوَادِي فَحَظُّهُ التَّنْوِينَ لِمَا ذُكِرَ قَبْلُ مِنَ الْعِلَّةِ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا أَوْ مُفَسِّرًا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا حَكَمَهُ التَّنْوِينُ، وَهُوَ عِنْدِي اسْمُ الْوَادِي. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى الْوَادِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا "وَأَنَّا" بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَ(أَنَا) بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ "أَنَا" رَدًّا عَلَى: نُودِيَ يَا مُوسَى، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، وَبِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ. وَأَمَّا عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَرَءُوهُ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} بِتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ اخْتَارَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ، مَعَ اتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِيهِ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: نُودِيَ أَنَّا اخْتَرْنَاكَ. فَاجْتَبَيْنَاكَ لِرِسَالَتِنَا إِلَى مَنْ نُرْسِلُكَ إِلَيْهِ {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} يَقُولُ: فَاسْتَمَعَ لِوَحْيِنَا الَّذِي نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَعِهِ، وَاعْمَلْ بِهِ. {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّنِي أَنَا الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَلَا تَعْبُدْ غَيْرِي، فَإِنَّهُ لَا مَعْبُودَ تَجُوزُ أَوْ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ سِوَايَ (فَاعْبُدْنِي) يَقُولُ: فَأَخْلِصِ الْعِبَادَةَ لِي دُونَ كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِي {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِي فَإِنَّكَ إِذَا أَقَمْتَهَا ذَكَرْتَنِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ: إِذَا صَلَّى ذَكَرَ رَبَّهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ: إِذَا ذَكَرَ عَبَدَ رَبَّهُ. قَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ حِينَ تَذْكُرُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ: يُصَلِّيهَا حِينَ يَذْكُرُهَا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي يُونُسُ وَمَالِكُ بْنُ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، قَالَ اللَّهُ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}». وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقْرَؤُهَا: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرَى" بِمَنْـزِلَةِ فَعْلَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعْنَيَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ: حِينَ تَذْكُرُهَا، لَكَانَ التَّنْـزِيلُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِكَهَا. وَفِي قَوْلِهِ: (لِذِكْرِي) دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ قِرَاءَةً مُسْتَفِيضَةً فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، كَانَ صَحِيحًا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ حِينَ تَذْكُرُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَجَّهَ بِقِرَاءَتِهِ "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرَى" بِالْأَلِفِ لَا بِالْإِضَافَةِ، إِلَى أَقِمْ لِذِكْرَاهَا، لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ حُذِفَتَا، وَهُمَا مُرَادَتَانِ فِي الْكَلَامِ لِيُوَفِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ رُءُوسِ الْآيَاتِ، إِذْ كَانَتْ بِالْأَلِفِ وَالْفَتْحِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي قِرَاءَةِ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُ، إِنَّمَا قَصَدَ الزُّهْرِيُّ بِفَتْحِهَا تَصْيِيرَهُ الْإِضَافَةَ أَلِفًا لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُءُوسِ الْآيَاتِ قَبْلَهُ وَبُعْدَهُ، لِأَنَّهُ خَالَفَ بِقِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أُطَـوِّفُ مَـا أُطَـوِّفُ ثُـمَّ آوِي *** إِلَـى أُمَّـا وَيُرْوِينِي النَّقِـيعُ وَهُوَ يُرِيدُ: إِلَى أُمِّي، وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: يَا أَبَا وَأُمَّا، وَهِيَ تُرِيدُ: يَا أَبِي وَأُمِّي، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ مَقَالٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ الَّتِي يَبْعَثُ اللَّهُ فِيهَا الْخَلَائِقَ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ جَائِيَةٌ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} فَعَلَى ضَمِّ الْأَلِفِ مِنْ أُخْفِيهَا قِرَاءَةُ جَمِيعِ قُرَّاءِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ، بِمَعْنَى: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، لِئَلَّا يَطْلِّعَ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَبِذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} يَقُولُ: لَا أَظْهَرُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: مِنْ نَفْسِي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: مِنْ نَفْسِي. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: مِنْ نَفْسِي. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: يُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي. وَلَعَمْرِي لَقَدْ أَخْفَاهَا اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيهٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي". وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هُوَ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} بِفَتْح الْأَلِفِ مِنْ أُخْفِيهَا بِمَعْنَى: أُظْهِرُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: سَأَلَنِي رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ. دَابَ شَـهْرَيْنِ ثُـمَّ شَـهْرًا دَمِيكًـا *** بِـأَرِيكَيْنِ يَخْفِيَـانِ غَمِـيرًا فَقُلْت: يَظْهَرَانِ، فَقَالَ وَرْقَاءُ بْنُ إِيَاسٍ وَهُوَ خَلْفِي: أَقْرَأَنِيهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} بِنَصْبِ الْأَلِفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وِفَاقَ قَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَعْنَاهُ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَا {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَا مِنْ نَفْسِي. حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْهَبَّارِيُّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: مِنْ نَفْسِي. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مِنَ الْقَوْلِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، لِأَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِذَلِكَ جَاءَ، وَالَّذِي ذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ قِرَاءَةِ ذَلِكَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتُجِيزَ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِخِلَافِهَا قِرَاءَةَ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَلِمَ وَجَّهْتَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} بِضَمِّ الْأَلِفِ إِلَى مَعْنَى: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، دُونَ تَوْجِيهِهِ إِلَى مَعْنَى: أَكَادُ أُظْهِرُهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ لِلْإِخْفَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِظْهَارُ، وَالْآخَرُ الْكِتْمَانُ، وَأَنَّ الْإِظْهَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْإِخْفَاءُ مِنْ نَفْسِهِ يَكَادُ عِنْدَ السَّامِعِينَ أَنْ يَسْتَحِيلَ مَعْنَاهُ، إِذْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يُخْفِيَ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ بِهِ عَالِمٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ؟ قِيلَ: الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَنْتَ، وَإِنَّمَا وَجَّهْنَا مَعْنَى (أُخْفِيهَا) بِضَمِّ الْأَلِفِ إِلَى مَعْنَى: أَسْتُرُهَا مِنْ نَفْسِي، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ مَعْنَى الْإِخْفَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: السَّتْرُ. يُقَالُ: قَدْ أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا سَتَرْتُهُ، وَأَنَّ الَّذِينَ وَجَّهُوا مَعْنَاهُ إِلَى الْإِظْهَارِ، اعْتَمَدُوا عَلَى بَيْتٍ لِامْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ. حُدِّثْتُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّهُ قَالَ: أَنْشَدَنِيهِ أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَهْلِهِ فِي بَلَدِهِ: فَـإِنْ تَدْفِنُـوا الـدَّاءَ لَا نُخْفِـهِ *** وَإِنْ تَبْعَثُـوا الْحَـرْبَ لَا نَقْعُـدِ بِضَمِّ النُّونِ مَنْ لَا نَخَفْهُ، وَمَعْنَاهُ: لَا نُظْهِرُهُ، فَكَانَ اعْتِمَادُهُمْ فِي تَوْجِيهِ الْإِخْفَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى الْإِظْهَارِ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ سَمَاعِهِمْ هَذَا الْبَيْتَ، عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ ضَمِّ النُّونِ مَنْ نُخْفِهِ، وَقَدْ أَنْشَدَنِي الثِّقَةُ عَنِ الْفَرَّاءِ: فَإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نَخْفِهِ بِفَتْحِ النُّونِ مَنْ نَخْفِهِ، مَنْ خَفَيْتُهُ أُخْفِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْفَتْحُ فِي الْأَلِفِ مِنْ أُخْفِيهَا غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا، ثَبَتَ وَصَحَّ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ. أَكَادُ اسْتُرْهَا مِنْ نَفْسِي. وَأَمَّا وَجْهُ صِحَّةِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَاطَبَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبَ عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَجَرَى بِهِ خِطَابُهُمْ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْخَبَرِ عَنْ إِخْفَائِهِ شَيْئًا هُوَ لَهُ مُسَرٌّ: قَدْ كِدْتُ أَنَّ أُخْفِيَ هَذَا الْأَمْرَ عَنْ نَفْسِي مِنْ شِدَّةِ اسْتِسْرَارَي بِهِ، وَلَوْ قَدِرْتُ أُخْفِيهِ عَنْ نَفْسِي أَخْفَيْتُهُ، خَاطَبَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا قَدْ جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ بَيْنَهُمْ، وَمَا قَدْ عَرَفُوهُ فِي مَنْطِقِهِمْ وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ غَيْرَ مَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ لِمُوَافَقَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، إِذْ كُنَّا لَا نَسْتَجِيزُ الْخِلَافَ عَلَيْهِمْ، فِيمَا اسْتَفَاضَ الْقَوْلُ بِهِ مِنْهُمْ، وَجَاءَ عَنْهُمْ مَجِيئًا يَقْطَعُ الْعُذْرَ، فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا فِي ذَلِكَ غَيْرَ قَوْلِنَا مِمَّنْ قَالَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِزَاعِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزُوهُ إِلَى إِمَامٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعَيْنِ، وَعَلَى وَجْهٍ يُحْتَمَلُ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ: أُرِيدُ أُخْفِيهَا، قَالَ: وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أُولَئِكَ أَصْحَابِي الَّذِينَ أَكَادُ أَنْـزِلُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ: لَا أَنْـزِلُ إِلَّا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَحُكِيَ: أَكَادُ أَبْرَحُ مَنْـزِلِي: أَيْ مَا أَبْرَحُ مَنْـزِلِي، وَاحْتَجَّ بِبَيْتٍ أَنْشَدَهُ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ: كَـادَتْ وكِـدْتُ وَتِلْـكَ خَـيْرُ إِرَادَةٍ *** لَـوْ عَـادَ مِـنْ عَهْدِ الصَّبَابَةِ مَا مَضَى وَقَالَ: يُرِيدُ: بِكَادَتْ: أَرَادَتْ، قَالَ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أُرِيدُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. قَالَ: وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ قَوْلُ زَيْدِ الْخَيْلِ: سَـرِيعٌ إِلَـى الْهَيْجَـاءِ شَـاكٍ سِلَاحُهُ *** فَمَـا أَنْ تَكَـادُ قِرْنُـهُ يَتَنَفَّسُ وَقَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا يَتَنَفَّسُ قِرْنُهُ، وَإِلَّا ضَعُفَ الْمَعْنَى؛ قَالَ: وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: إِذَا غَـيَّرَ النَّـأْيُ الْمُحِـبِّينَ لَـمْ يَكَـدْ *** رَسِـيسُ الْهَـوَى مِـنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ قَالَ: وَلَيْسَ الْمَعْنَى: لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ: أَيْ بَعْدَ يُسْرٍ، وَيَبْرَحُ بَعْدَ عُسْرٍ؛ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَمْ يَبْرَحْ، أَوْ لَمْ يُرِدْ يَبْرَحُ، وَإِلَّا ضَعُفَ الْمَعْنَى؛ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: وَإِنْ أَتَـاكَ نَعِـيٌّ فَـانْدُبَنَّ أَبًـا *** قَـدْ كَـادَ يَضطْلِـعُ الْأَعْـدَاءَ والْخُطَبَا وَقَالَ: يَكُونُ الْمَعْنَى: قَدِ اضْطَلَعَ الْأَعْدَاءُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا إِذَا أَرَادَ كَادَ وَلَمْ يُرِدْ يَفْعَلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ، قَالَ: وَانْتَهَى الْخَبَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ أَكَادُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَكَادُ أَنْ آتِيَ بِهَا، قَالَ: ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَلَكِنِّي أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، قَالَ: وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ ابْنِ ضَابِي: هَمَمْـتُ وَلَـمْ أفْعَـلْ وكِـدْتُ ولَيْتَنِـي *** تَـرَكْتُ عَـلَى عُثْمَـانَ تَبْكِـي أَقَارِبُهُ فَقَالَ: كِدْتُ، وَمَعْنَاهُ: كِدْتُ أَفْعَلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى (أُخْفِيهَا) أُظْهِرُهَا، وَقَالُوا: الْإِخْفَاءُ وَالْإِسْرَارُ قَدْ تُوَجِّهُهُمَا الْعَرَبُ إِلَى مَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَاسْتَشْهَدَ بَعْضُهُمْ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْفَرَزْدَقِ: فَلَمَّـا رَأَى الْحَجَّـاجَ جَـرَّدَ سَـيْفَهُ *** أَسَـرَّ الْحَـرُورِيُّ الَّـذِي كَـانَ أَضْمَرَا وَقَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: أَسَرَّ: أَظْهَرَ. قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وَأَظْهَرُوهَا، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا}. وَقَالَ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، أَنْ يَكُونَ أَرَادَ: أُخْفِيهَا مِنْ قِبَلِي وَمِنْ عِنْدِي، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهٌ مِنْهُمْ لِلْكَلَامِ إِلَى غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَعْرُوفِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَفِي ذَلِكَ مَعَ خِلَافِهِمْ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى خَطَأِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ: يَقُولُ: لِتُثَابَ كُلُّ نَفْسٍ امْتَحَنَهَا رَبُّهَا بِالْعِبَادَةِ فِي الدُّنْيَا بِمَا تَسْعَى، يَقُولُ: بِمَا تَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَقَوْلُهُ {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَا يَرُدُّنَّكَ يَا مُوسَى عَنِ التَّأَهُّبِ لِلسَّاعَةِ، مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا، يَعْنِي: مَنْ لَا يُقِرُّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا يُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَلَا يَرْجُو ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُ عِقَابًا. وَقَوْلُهُ {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} يَقُولُ: اتَّبِعْ هَوَى نَفْسِهِ، وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ (فَتَرْدَى) يَقُولُ: فَتَهْلَكُ إِنْ أَنْتَ انْصَدَدْتَ عَنِ التَّأَهُّبِ لِلسَّاعَةِ، وَعَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَبِأَنَّ اللَّهَ بَاعِثُ الْخَلْقِ لِقِيَامِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ بِصَدِّ مَنْ كَفَرَ بِهَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ مِنْ قَوْلِهِ {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْإِيمَانِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ عَنْهَا وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ كَمَا قِيلَ {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} يَذْهَبُ إِلَى الْفِعْلَةِ، وَلَمْ يَجْرِ لِلْإِيمَانِ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ السَّاعَةِ، فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِهَا أَوْلَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ (بِيَمِينِكَ) مِنْ صِلَةِ تِلْكَ، وَالْعَرَبُ تَصِلُ تِلْكَ وَهَذِهِ كَمَا تَصِلُ الَّذِي، وَمِنْهُ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ مُفَرَّعٍ: عَـدَسْ، مَـا لِعَبَّـادٍ عَلَيْـكِ إِمَـارَةٌ *** أَمِنْـتِ وَهَـذَا تَحْـملِينَ طَلِيـقُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي تَحْمِلِينَ طَلِيقٌ. وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: وَمَا وَجْهُ اسْتِخْبَارِ اللَّهِ مُوسَى عَمَّا فِي يَدِهِ؟ أَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ عَصَا؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَزَّ ذِكْرُهُ لَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَهِيَ خَشَبَةٌ، فَنَبَّهَهُ عَلَيْهَا، وَقَرَّرَهُ بِأَنَّهَا خَشَبَةٌ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، وَيَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ، لِيُعَرِّفهُ قُدْرَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَعِظَمَ سُلْطَانِهِ، وَنَفَاذَ أَمْرِهِ فِيمَا أَحَبَّ بِتَحْوِيلِهِ إِيَّاهَا حَيَّةً تَسْعَى، إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ بِهِ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ لِمُوسَى آيَةً مَعَ سَائِرِ آيَاتِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى: قَالَ مُوسَى مُجِيبًا لِرَبِّهِ {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} يَقُولُ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ الْيَابِسَ فَيَسْقُطُ وَرَقُهَا وَتَرْعَاهُ غَنَمِي، يُقَالُ مِنْهُ: هَشَّ فُلَانٌ الشَّجَرَ يَهُشُّ هَشًّا: إِذَا اخْتَبَطَ وَرَقَ أَغْصَانِهَا فَسَقَطَ وَرَقُهَا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: أَهُشُّ بِالْعَصَـا عَـلَى أَغْنَـامِي *** مِـنْ نِـاعِمِ الْأَرَاكِ وَالْبَشَـامِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ: أَخْبِطُ بِهَا الشَّجَرَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ: أَخَبِطُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُشُّ عَلَى غَنَمِهِ وَرَقَ الشَّجَرِ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} يَقُولُ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ لِلْغَنَمِ، فَيَقَعُ الْوَرَقُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ: يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا حِينَ يَمْشِي مَعَ الْغَنَمِ، وَيَهُشُّ بِهَا، يُحَرِّكُ الشَّجَرَ حَتَّى يَسْقُطَ وَرَقُ الْحَبَلَةِ وَغَيْرِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ، فَيَسْقُطُ مِنْ وَرَقِهَا عَلَيَّ. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبَوَيْهِ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ، فَيَتَسَاقَطُ الْوَرَقُ عَلَى غَنَمِي. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} يَقُولُ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ حَتَّى يَسْقُطَ مِنْهُ مَا تَأْكُلُ غَنَمِي. وَقَوْلُهُ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} يَقُولُ: وَلِي فِي عَصَايَ هَذِهِ حَوَائِجُ أُخْرَى، وَهِيَ جَمْعُ مَأْرَبَةٍ، وَفِيهَا لِلْعَرَبِ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ: مَأْرُبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَمَأْرَبَةٌ بِفَتْحِهَا، وَمَأْرِبَةٌ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ مُفْعِلَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَبَ لِي فِي هَذَا الْأَمْرِ: أَيْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، وَقِيلَ أُخْرَى وَهُنَّ مَآرِبُ جَمْعٌ، وَلَمْ يَقِلْ أُخَرُ، كَمَا قِيلَ: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَدْ بَيَّنْتُ الْعِلَّةَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ هُنَالِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى الْمَآرِبِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَوَائِجُ أُخْرَى قَدْ عَلِمْتَهَا. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} يَقُولُ: حَاجَةٌ أُخْرَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَاجَاتٌ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعً عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَاجَاتٌ وَمَنَافِعُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَاجَاتٌ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} يَقُولُ: حَوَائِجُ أُخْرَى أَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمِزْوَدَ وَالسِّقَاءَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَوَائِجُ أُخْرَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَاجَاتٌ وَمَنَافِعُ أُخْرَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أَيْ مَنَافِعُ أُخْرَى. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَوَائِجُ أُخْرَى سِوَى ذَلِكَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَاجَاتٌ أُخْرَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: أَلْقِ عَصَاكَ الَّتِي بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ: فَأَلْقَاهَا مُوسَى، فَجَعَلَهَا اللَّهُ حَيَّةً تَسْعَى، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ خَشَبَةً يَابِسَةً، وَعَصَا يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَيَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ، فَصَارَتْ حَيَّةً بِأَمْرِ اللَّهِ. كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبَّيُّ، قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْعٍ، قَالَ: ثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قِيلَ لِمُوسَى: أَلْقِهَا يَا مُوسَى، أَلْقَاهَا {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً، قَالَ: فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، قَالَ: فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا، قَالَ: فَوَلَّى مُدْبِرًا، فَنُودِيَ أَنْ يَا مُوسَى خُذْهَا، فَلَمْ يَأْخُذْهَا، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَة: أَنْ {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ}، فَلَمْ يَأْخُذْهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} فَأَخَذَهَا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: قَالَ لَهُ، يَعْنِي لِمُوسَى رَبُّهُ {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} يَعْنِي {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} فَنُودِيَ {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} تَهْتَزُّ، لَهَا أَنْيَابٌ وَهَيْئَةٌ كَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، فَرَأَى أَمْرًا فَظِيعًا، {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} فَنَادَاهُ رَبُّهُ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}. وَقَوْلُهُ {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: خُذِ الْحَيَّةَ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ مِنْ ذِكْرِ الْحَيَّةِ (وَلَا تَخَفْ) يَقُولُ: وَلَا تَخَفْ مِنْ هَذِهِ الْحَيَّةِ يَقُولُ: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} يَقُولُ: فَإِنَّا سَنُعِيدُهَا لِهَيْئَتِهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ نُصَيِّرَهَا حَيَّةً، وَنَرُدَّهَا عَصَا كَمَا كَانَتْ. يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى أَمْرٍ فَتَرَكَهُ، وَتَحَوَّلَ عَنْهُ ثُمَّ رَاجَعَهُ: عَادَ فُلَانٌ سِيرَتَهُ الْأُولَى، وَعَادَ لِسِيرَتِهِ الْأُولَى، وَعَادَ إِلَى سِيرَتِهِ الْأُولَى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {سِيرَتَهَا الْأُولَى} يَقُولُ: حَالَتُهَا الْأُولَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {سِيرَتَهَا الْأُولَى} قَالَ: هَيْئَتُهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أَيْ سَنَرُدُّهَا عَصَا كَمَا كَانَتْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} قَالَ: إِلَى هَيْئَتِهَا الْأُولَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاضْمُمْ يَا مُوسَى يَدَكَ، فَضَعْهَا تَحْتَ عَضُدِكَ؛ وَالْجَنَاحَانِ هُمَا الْيَدَانِ، كَذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُمَا الْجَنْبَانِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: أَضُمُّهُ لِلصَّدْرِ وَالْجَنَاحِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {إِلَى جَنَاحِكَ} قَالَ: كَفَّهُ تَحْتَ عَضُدِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ذُكِرَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا آدَمَ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، مِثْلَ الثَّلْجِ، ثُمَّ رَدَّهَا، فَخَرَجَتْ كَمَا كَانَتْ عَلَى لَوْنِهِ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثَنَا قُرَّةُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ: أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ لَقِيَ رَبَّهُ. وَقَوْلُهُ {آيَةً أُخْرَى} يَقُولُ: وَهَذِهِ عَلَّامَةٌ وَدَلَالَةٌ أُخْرَى غَيْرَ الْآيَةِ الَّتِي أَرَيْنَاكَ قَبْلَهَا مِنْ تَحْوِيلِ الْعَصَا حَيَّةً تَسْعَى عَلَى حَقِيقَةِ مَا بَعَثْنَاكَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ لِمَنْ بَعَثْنَاكَ إِلَيْهِ، وَنَصَبَ آيَةً عَلَى اتِّصَالِهَا بِالْفِعْلِ، إِذْ لَمَّ يَظْهَرُ لَهَا مَا يَرْفَعُهَا مِنْ هَذِهِ أَوْ هِيَ، وَقَوْلُهُ {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاضْمُمْ يَدَكَ يَا مُوسَى إِلَى جَنَاحِكَ، تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، كَيْ نُرِيَكَ مِنْ أَدِلَّتِنَا الْكُبْرَى عَلَى عَظِيمِ سُلْطَانِنَا وَقُدْرَتِنَا. وَقَالَ: الْكُبْرَى، فَوَحَّدَ، وَقَدْ قَالَ {مِنْ آيَاتِنَا} كَمَا قَالَ (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هُنَالِكَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: إِنَّمَا قِيلَ الْكُبْرَى، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا التَّقْدِيمُ، كَأَنَّ مَعْنَاهَا عِنْدَهُ: لِنُرِيَكَ الْكُبْرَى مِنْ آيَاتِنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: (اذْهَبْ) يَا مُوسَى {إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}. يَقُولُ: إِنَّهُ تَجَاوَزَ قَدْرَهُ، وَتَمَرَّدَ عَلَى رَبِّهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الطُّغْيَانِ بِمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِفَهْمِ السَّامِعِ بِمَا ذُكِرَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} فَادْعُهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَكَ {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} يَقُولُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، لِأَعِيَ عَنْكَ مَا تُودِعُهُ مِنْ وَحْيِكَ، وَأَجْتَرِئُ بِهِ عَلَى خِطَابِ فِرْعَوْنَ {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} يَقُولُ: وَسَهِّلْ عَلِيَّ الْقِيَامَ بِمَا تُكَلِّفُنِي مِنَ الرِّسَالَةِ، وَتَحْمِلُنِي مِنَ الطَّاعَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِيقَوْلِ اللَّهِ: {رَبِ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} قَالَ: جُرْأَةً لِي. وَقَوْلُهُ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} يَقُولُ: وَأَطْلِقْ لِسَانِي بِالْمَنْطِقِ، وَكَانَتْ فِيهِ فِيمَا ذُكِرَ عُجْمَةٌ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ مِنْ إِلْقَائِهِ الْجَمْرَةَ إِلَى فِيهِ يَوْمَ هَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَمَّنْ قَالَهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: {عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قَالَ: عُجْمَةٌ لِجَمْرَةِ نَارٍ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ عَنْ أَمْرِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، تَرُدُّ بِهِ عَنْهُ عُقُوبَةَ فِرْعَوْنَ، حِينَ أَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، فَقَالَ: هَذَا عَدُوٌّ لِي، فَقَالَتْ لَهُ. إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} لِجَمْرَةِ نَارٍ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ عَنْ أَمْرِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، تَدْرَأُ بِهِ عَنْهُ عُقُوبَةَ فِرْعَوْنَ، حِينَ أَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، فَقَالَ: هَذَا عَدُوٌّ لِي، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ، هَذَا قَوْلُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قَالَ: عُجْمَةُ الْجَمْرَةِ نَارٌ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، عَنْ أَمْرِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ تَرُدُّ بِهِ عَنْهُ عُقُوبَةَ فِرْعَوْنَ حِينَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا تَحَرَّكَ الْغُلَامُ، يَعْنِي مُوسَى، أَوْرَتْهُ أُمُّهُ آسِيَةُ صَبِيًّا، فَبَيْنَمَا هِيَ تُرَقِّصُهُ وَتَلْعَبُ بِهِ، إِذْ نَاوَلَتْهُ فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ: خُذْهُ، فَلَمَّا أَخَذَهُ إِلَيْهِ أَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِينَ، قَالَتْ آسِيَةُ: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} إِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ، وَإِنَّمَا صَنَعَ هَذَا مِنْ صِبَاهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَهْلِ مِصْرَ أَحْلَى مِنَى أَنَا أَضَعُ لَهُ حُلِيًّا مِنَ الْيَاقُوتِ، وَأَضَعُ لَهُ جَمْرًا، فَإِنْ أَخَذَ الْيَاقُوتَ فَهُوَ يَعْقِلُ فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَمْرِ فَإِنَّهُ هُوَ صَبِيٌّ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ يَاقُوتَهُا وَوَضَعَتْ لَهُ طَسْتًا مِنْ جَمْرٍ، فَجَاءَ جِبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَرَحَ فِي يَدِهِ جَمْرَةً، فَطَرَحَهَا مُوسَى فِي فِيهِ، فَأَحْرَقَتْ لِسَانَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}، فَزَالَتْ عَنْ مُوسَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {يَفْقَهُوا قَوْلِي} يَقُولُ: يَفْقَهُوا عَنِّي مَا أُخَاطِبُهُمْ وَأُرَاجِعُهُمْ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} يَقُولُ: وَاجْعَلْ لِي عَوْنًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي {هَارُونَ أَخِي}. وَفِي نَصْبِ هَارُونَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ هَارُونُ مَنْصُوبًا عَلَى التَّرْجَمَةِ عَنِ الْوَزِيرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُشْدِدَ أَزْرَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قَوِّ ظَهْرِي، وَأَعِنِّي بِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَزَرَ فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا أَعَانَهُ وَشَدَّ ظَهْرَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} يَقُولُ: اشْدُدْ بِهِ ظَهْرِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} يَقُولُ: اشْدُدْ بِهِ أَمْرِي، وَقَوِّنِي بِهِ، فَإِنَّ لِي بِهِ قُوَّةً. وَقَوْلُهُ {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} يَقُولُ: وَاجْعَلْهُ نَبِيًّا مِثْلَ مَا جَعَلْتَنِي نَبِيًّا، وَأَرْسِلْهُ مَعِي إِلَى فِرْعَوْنَ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} يَقُولُ: كَيْ نُعَظِّمَكَ بِالتَّسْبِيحِ لَكَ كَثِيرًا {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} فَنَحْمَدُكَ {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} يَقُولُ: إِنَّكَ كُنْتَ ذَا بَصَرٍ بِنَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ مِنْ أَفْعَالِنَا شَيْءٌ. وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {أَشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ "أَشْدَدَ" {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} بِضَمِّ الْأَلِفِ مِنْ أُشْرِكُهُ، بِمَعْنَى الْخَبَرِ مِنْ مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لَا عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ، وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جُزِمَ "أَشْدُد" وَ"أُشْرِكُ " عَلَى الْجَزَاءِ، أَوْ جَوَابِ الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ قِرَاءَةٌ لَا أَرَى الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَجْهٌ مَفْهُومٌ، لِخِلَافِهَا قِرَاءَةَ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا.
|